الدعاء.. سهام الليل التي لا تخطئ


الدعاء.. سهام الليل التي لا تخطئ
بقلم: د. أحمد عبد الخالق
حمدًا لله تعالى، وصلاةً وسلامًا على خير الخلق أجمعين، وحبيب رب العالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
فإن هذه الحلقة من التأملات، سوف تدور حول الدعاء، وأهميته في كشف الكروب، وتفريج الهموم، وذلك لتعلق الدعاء بالله تعالى، فالله عز وجل، هو الذي يستجار به ويستغاث به ويلجأ إليه، وهو الذي وحده يملك القلوب، ويملك تصريف الأمور، وقضاء الحاجات، وتيسير الأمور، والشفاء من الأمراض، فهو سبحانه وتعالى ﴿بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ﴾ (المؤمنون: من الآية 88).
ومن هنا فإن الله تعالى، قد أمرنا بالدعاء، ووعدنا بالإجابة في كتابه العزيز، فقال: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)﴾ (غافر)، وأخبرنا سبحانه وتعالى أنه قريب من عباده يجيب دعاء من دعاه. فقال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)﴾ (البقرة)، وبين لنا المولى جل في علاه، أنه يجيب دعاء المضطر، إذا دعاه ويكشف عنه السوء، ولو كان مشركًا، فقال: ﴿َمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62)﴾ (النمل).
وأرشدنا الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى أن الدعاء مخ العبادة، أو هو العبادة فقال: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾.
ويقول الشاعر الحكيم:
لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله وبنو آدم حين يسأل يغضب
فيا أحبة القلوب، إن أبواب الرحمن لا تغلق أبدًا، فمتى أراد العبد من ربه شيئًا، فما عليه إلا أن يطرق بابه سبحانه وتعالى، وذلك بركعتين، ويلزم الباب ولا يفارقه، ويظل يطرق الباب، حتى يفتح له الفتاح جل في علاه. يقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "إن المصلي، ليقرع باب الملك، وإنه من يدم قرع الباب، يوشك أن يفتح له".

ومن هنا فإن كل نبي من الأنبياء كان إذا نزلت به نازلة، أو أصابه مكروه، أو حَزَبه أمر، فزع إلى الله تعالى، إما بالصلاة، وإما بالدعاء، وذلك كما ورد عن الرسول- صلى الله عليه وسلم-، أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
وها هو ذا نبي الله نوح عليه السلام، ظل يدعو قومه تسعمائة وخمسين عامًا، لكنه بعد أن اشتد به الأذى، وتآمر عليه قومه، دعا عليهم، فقال: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)﴾ (القمر)، فاستجاب الله دعاءه وأهلك قومه بالغرق. قال تعالى: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)﴾ (القمر).
وفي سورة الأنبياء يقول الله تعالى:﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)﴾ (الأنبياء) وفي سورة نوح قال تعالى: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا (27)﴾ (نوح).
وهذا هو نبي الله أيوب عليه السلام، وهو الذي يضرب به المثل في الصبر على البلاء، قد دعا ربه بعد صبر طويل. قال الله تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)﴾ (لأنبياء).

وهذا هو نبي الله يونس عليه السلام عندما ابتلعه الحوت، وأصبح في الظلمات، لم يستغث إلا بالله تعالى، ولم يلجأ إلا إليه. قال تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾ (الأنبياء).
وهذا هو نبي الله زكريا، يدعو ربه أن يرزقه الذرية الصالحة. قال الله تعالى:﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)﴾(الأنبياء).
ولما هدد فرعون اللعين، السحرة لما أسلموا، بالقتل والصلب، لم يأبه السحرة بهذا التهديد فانصرفوا عنه إلى خالقهم وبارئهم، طالبين منه الثبات، سائلين إياه الصبر. فقالوا: ﴿وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)﴾ (الأعراف)
ولقد دعا بهذا الدعاء أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما ذكر القرآن عنهم: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)﴾ (آل عمران).
ولما خرج النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف، ليبلغهم دعوة الله تعالى، آذوه وسلطوا عليه سفهاءهم، ورموه بالحجارة، حتى أدموه. فدعا- صلى الله عليه وسلم- بهذه الدعوات:"اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت أرحم الراحمين، وأنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى عدو بعيد يتجهمني، أم إلى صديق قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك، أو يحل بي سخطك، ولك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك".
وهذا عبد صالح من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، كان مكروبًا فدعا بدعاء زلزل السماوات، فتحركت له الملائكة، فعن أنس قال: كان رجل من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- من الأنصار يكني أبا معلق، وكان يتجر بمال له ولغيره يضرب به في الآفاق، وكان ناسكًا ورعًا، فخرج مرة، فلقيه لص مقنع بالسلاح، فقال له ضع ما معك فإني قاتلك. قال: ما تريد إلا دمي، شأنك بالمال. قال: أما المال فلي فلست أريد إلا دمك، قال: أما إذا أبيت فذرني أصلي أربع ركعات. قال: صل ما بدا لك، فتوضأ، ثم صلى أربع ركعات، وكان من دعائه في آخر سجدة أنه قال: "يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما تريد، أسألك بعزك الذي لا يرام، وملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك، أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني- ثلاث مرات". قال أنس: دعا بها ثلاث مرات، فإذا هو بفارس قد أقبل بيده حربة واضعها بين أذني فرسه، فلما أبصر به اللص أقبل نحوه فطعنه فقتله، ثم أقبل إليه فقال: قم. قال: من أنت بأبي أنت وأمي فقد أغاثني الله تعالى بك اليوم؟ قال: أنا ملك من أهل السماء الرابعة، دعوتَ الله بدعائك الأول، فسمعت لأبواب السماء قعقعة، ثم دعوتَ بدعائك الثاني فسمعت لأهل السماء ضجيجًا، ثم دعوت بدعائك الثالث، فقيل: دعاء مكروب، فسألت الله عز وجل أن يوليني قتله.
قال أنس: فاعلم أنه من توضأ وصلى أربع ركعات ودعا بهذا الدعاء استجيب له، مكروبًا كان، أو غير مكروب.
فيا أحبتنا في الله: استعينوا بالله تعالى في كل أموركم، وسلوا الله جميع حوائجكم، فإنه سبحانه إن رضي عنكم، تقبل منكم وأعطاكم. وإن سخط، منع العطاء وشدد، حتى نعود إليه ونصطلح معه، وحينئذ يفرج الكروب، ويذهب الهموم، ويزيل الغموم، فاللهم يا حي يا قيوم، يا بديع السماوات والأرض، يا من يقول للشيء كن فيكون، نسألك باسمك الأعظم فرجًا قريبًا، وشفاء من كل داء، وحسن الخاتمة، والنظر إلى وجهك الكريم.
أيهما أفضل: الإسرار بالدعاء أم الجهر به؟
الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة. لذا فإن قوله تعالى: ﴿تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ (الأنعام: من الآية 63) يتناول نوعي الدعاء، لكنه ظاهر في دعاء المسألة، متضمن دعاء العبادة، ولهذا أمر الله تعالى بإخفائه وإسراره، قال الحسن البصري: "بين دعوة السر ودعوة العلانية، سبعون ضعفًا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: ﴿تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ وأن الله تعالى ذكر عبدًا صالحًا ورضي بفعله فقال: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)﴾(مريم).
فوائد إخفاء الدعاء
يقول ابن القيم في بدائع الفوائد: وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة:
أحدها: أنه أعظم إيمانًا، لأن صاحبه يعلم أن الله تعالى يسمع دعاءه الخفي، وليس كالذي قال: إن الله يسمع، إن جهرنا، ولا يسمع، إن أخفينا.
ثانيها:أنه أعظم في الأدب والتعظيم، ولهذا لا تخاطب الملوك، ولا تسأل برفع الأصوات، وإنما تخفض عندهم الأصوات، ويخف عندهم الكلام بمقدار ما يسمعونه، ومن رفع صوته لديهم، مقتوه، ولله المثل الأعلى، فإذا كان يسمع الدعاء الخفي، فلا يليق بالأدب بين يديه، إلا خفض الصوت به.
ثالثها:أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده، فإن الخاشع الذليل الضارع، إنما يسأل مسألة مسكين ذليل، قد انكسر قلبه، وذلت جوارحه، وخشع صوته، حتى إنه ليكاد تبلغ به ذلته ومسكنته وكسره وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوله بالنطق، فقلبه سائل طالب مبتهل. ولسانه لشدة ذله وضراعته ومسكنته ساكت، وهذه الحالة لا يتأتى معها رفع الصوت بالدعاء أصلاً.
رابعها:أنه أبلغ في الإخلاص.
خامسها: أنه أبلغ في جمعه القلب على الله تعالى في الدعاء، فإن رفع الصوت، يفرقه ويشتته فكلما خفض صوته كان أبلغ في صمده وتجريد همته وقصده للمدعو سبحانه وتعالى.
سادسها: وهو من النكت السرية البديعة جدًّا، أنه دال على قرب صاحبه من الله، وأنه لاقترابه منه وشدة حضوره، يسأله مسألة أقرب شيء إليه، فيسأله مسألة مناجاة للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد؛ ولهذا أثنى سبحانه على عبده زكريا بقوله: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾ فكلما استحضر القلب، قرب الله تعالى منه، وإنه أقرب إليه من كل قريب. وتصور ذلك أخفى دعاءه ما أمكنه، ولم يتأت له رفع الصوت به، بل يراه غير مستحسن، كما أن من خاطب جليسًا له، يسمع خفي كلامه، فبالغ في رفع الصوت، استهجن ذلك منه، ولله المثل الأعلى سبحانه،
وقد أشار النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى هذا المعنى بعينه بقوله في الحديث الصحيح لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر فقال: "أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمًا ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته"، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي﴾ (البقرة: من الآية 186).
سبب نزل هذه الأية:
وقد جاء أن سبب نزولها، أن الصحابة قالوا: يا رسول الله، ربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله عز وجل: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي﴾، وهذا يدل على إرشادهم للمناجاة في الدعاء، لا للنداء الذي هو رفع الصوت، فإنهم عن هذا سألوا فأجيبوا، بأن ربهم تبارك وتعالى قريب لا يحتاج في دعائه وسؤاله إلى النداء، وإنما يسأل مسألة القريب المناجي، لا مسألة البعيد المنادي.

سابعها: أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب بخلاف ما إذا رفع صوته، فإنه قد يكل لسانه وتضعف بعض قواه، وهذا نظير من يقرأ ويكرر، رافعًا صوته، فإنه لا يطول له ذلك بخلاف من يخفض صوته.
ثامنها: أن إخفاء الدعاء، أبعد له من القواطع والمشوشات والمضعفات، فإن الداعي إذا أخفى دعاءه، لم يدر به أحد، فلا يحصل هناك تشويش ولا غيره. وإذا جهر به، تفطنت له الأرواح الشريرة والخبيثة من الجن والإنس، فشوشت عليه، ولا بد، ومانعته وعارضته، ولو لم يكن، إلا أن تعلقها به، يفرق عليه همته فيضعف أثر الدعاء، لكفى ومن له تجربة يعرف هذا، فإذا أسر الدعاء وأخفاه أمن هذه المفسدة.

تاسعها: إن أعظم النعم الإقبال على الله، والتعبد له والانقطاع إليه والتبتل إليه، ولكل نعمة حاسد على قدرها دقت، أو جلت. ولا نعمة أعظم من هذه النعمة. فأنفس الحاسدين المنقطعين، متعلقة بها، وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد، وأن لا يقصد إظهارها له، وقد قال يعقوب ليوسف: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)﴾ (يوسف)، وكم من صاحب قلب وجمعية وحال مع الله، قد تحدث بها وأخبر بها، فسلبه إياها الأغيار، فأصبح يقلب كفيه.

عاشرها: أن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه، متضمن للطلب منه والثناء عليه بأسمائه وأوصافه، فهو ذكر وزيادة، كما أن الذكر، سمي دعاء لتضمنه الطلب، كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الدعاء: الحمد لله" فسمى الحمد لله دعاء وهو ثناء محض، لأن الحمد يتضمن الحب والثناء، والحب أعلى أنواع الطلب للمحبوب.

أسأل الله تعالى التوفيق والقبول، إنه سبحانه وتعالى نعم المولى ونعم النصير.

0 التعليقات:

 

iCoNzZz تم تعريب القالب بواسطة